يُعدّ السل من أكثر الأمراض المعدية انتشاراً حول العالم، ورغم أن الرئتين تمثّلان موضع الإصابة الأكثر شيوعاً إلا أنّ الجرثومة المسببة له قادرة على الانتقال إلى أعضاء أخرى من الجسم، وعندما يحدث ذلك، يُعرف المرض باسم السل خارج الرئة.
يمثّل هذا النوع من المرض نحو 15 إلى 20% من حالات السل على مستوى العالم، ويُعدّ تحدّياً تشخيصياً وعلاجياً بسبب تنوّع أماكن الإصابة واختلاف طبيعة الأعراض. فهم هذا النوع من السل ضروري للحد من مضاعفاته وتحقيق الشفاء الكامل للمصابين به.
ما هو السل خارج الرئة؟
يحدث السل خارج الرئة عندما تنتقل جرثومة المتفطرة السلَية من الرئتين لتصيب أعضاء أخرى في الجسم مثل العقد اللمفاوية أو الأغشية المحيطة بالرئتين (غشاء الجنب) أو الدماغ أو الكليتين أو العظام والمفاصل، وقد تصيب أحياناً الحنجرة أو الكبد أو أي عضو آخر تقريباً.
في أغلب الحالات لا يكون هذا النوع من السل معدياً، إلا إذا ترافق مع إصابة في الرئتين، أو تواجدت الآفة في الحنجرة أو الفم، أو وُجد خراج مفتوح يفرز سوائل تحتوي تركيزاً عالياً من الجراثيم يمكن أن تنتقل بالهواء، ويُلاحظ حدوث السل خارج الرئة بشكلٍ أكبر لدى الأشخاص ضعيفي المناعة مثل المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية (HIV) أو داء السكري.
أنواع السل خارج الرئة
تتنوع صور السل خارج الرئة تبعاً للعضو المصاب، إذ تُحدث الجرثومة تفاعلات التهابية مختلفة في كل نسيج من أنسجة الجسم، ويُساعد تمييز نوع الإصابة على اختيار الخطة العلاجية الأنسب وتقدير احتمال حدوث المضاعفات.
1. سل العقد اللمفاوية
يُعدّ سل العقد اللمفاوية أكثر أشكال السل خارج الرئة شيوعاً، إذ يُشكّل ما يقارب ثلث الحالات تقريباً، غالباً ما يصيب العقد الموجودة في الرقبة ولا سيّما العقد العنقية الخلفية أو فوق الترقوة، وقد يمتدّ إلى العقد الإبطية أو المنصفية في بعض الحالات. يتميّز هذا النوع من السل بمساره المزمن البطيء، وغالباً ما يُصيب الشباب أو الأشخاص ضعيفي المناعة مثل مرضى HIV، ويُعدّ من أشيع الأسباب لاعتلال العقد اللمفاوية المزمن في البلدان التي ينتشر فيها السل.
تتظاهر الإصابة عادةً بتضخّم تدريجي وغير مؤلم في العقد اللمفاوية، يكون في البداية صلباً ومتحركاً ثم يلين مع الوقت نتيجة تشكّل خراجات صغيرة داخل العقد. في المراحل المتقدمة قد تلتهب المنطقة ويحدث تقيّح أو تشكّل ناسور جلدي يفرز مفرزات مزمنة، لا ترافق الحالة عادةً أعراض تنفسية واضحة، لكن بعض المرضى قد يُصابون بحمى خفيفة أو تعرّق ليلي أو نقص في الوزن.

2. السل العظمي أو المفصلي
يمثّل السلّ العظمي ثاني أكثر أشكال السل خارج الرئة شيوعاً، ويحدث عندما تصل الجرثومة إلى العظام أو المفاصل عبر مجرى الدم من بؤرة رئوية سابقة. يُصيب المرض عادة العمود الفقري في الفقرات الصدرية أو القَطَنية، ويُعرف هذا الشكل باسم مرض بوت. تبدأ الإصابة بآلام مزمنة في الظهر أو المفصل المصاب تزداد تدريجياً مع الوقت، وقد يلاحظ المريض تيبّساً في الحركة أو تورماً في المنطقة، ومع تدهور الحالة قد يحدث تشوّه في العمود الفقري أو انضغاط على الأعصاب الشوكية يؤدي إلى ضعف أو شلل في الأطراف السفلية.
في المفاصل، يظهر المرض بشكل التهاب مزمن بطيء التطور يُصيب غالباً مفصل الورك أو الركبة، مسبباً ألماً متقطعاً وتورماً خفيفاً يزداد مع الحركة. يتصف هذا الشكل من السل بمساره الطويل والأعراض غير الواضحة في بدايته، وغالباً ما يُشخّص بعد مرور أشهر من بدء الأعراض بسبب غياب العلامات المميزة في المراحل الأولى.
3. السل الكلوي والبولي التناسلي
يحدث هذا النوع عندما تصل جراثيم السل إلى الكليتين عبر الدم من بؤرة رئوية سابقة، وقد يبقى خاملاً لسنوات قبل أن يبدأ بإحداث أذية نسيجية تدريجية، ومع تطوّر الإصابة تمتد العدوى إلى الحالبين ثم المثانة، وقد تُصيب الأعضاء التناسلية أيضاً.
تبدأ الأعراض عادةً بشكل خفيف وغير نوعي، مثل تكرار التبول، أو ألم في الخاصرة، أو وجود دم في البول. في بعض الحالات يُلاحظ ما يُعرف بالبيوريا العقيمة، أي وجود كريات بيضاء في البول دون وجود جراثيم في الزرع المخبري، وهي علامة مميزة للسل الكلوي. قد تتراجع وظيفة الكلية تدريجياً في المراحل المتقدمة بسبب التندّب أو الانسداد البولي المزمن.
عند الرجال قد يمتدّ الالتهاب إلى البروستات أو البربخ مسبباً تورماً مؤلماً في الصفن أو تراجعاً في الخصوبة، بينما قد تُصاب النساء بالتهاب في البوقين أو المبيضين يؤدي إلى ألم حوضي مزمن أو عقم ناتج عن تليّف القنوات التناسلية. يتطور هذا الشكل من المرض ببطء وغالباً ما يُكتشف بعد فترة طويلة من بدايته.
4. السل السحائي
يُعدّ السلّ السحائي من أخطر أشكال السل خارج الرئة لأنه يُصيب الأغشية التي تحيط بالدماغ والنخاع الشوكي، وغالباً ما يؤدي التأخر في تشخيصه إلى مضاعفات عصبية دائمة أو حتى الوفاة. ينتج هذا النوع عن انتشار جراثيم السل عبر الدم إلى السحايا، خصوصاً عند الأطفال أو المصابين بضعف المناعة.
تبدأ الأعراض عادة بشكل تدريجي يشمل صداعاً مستمراً، وحمى خفيفة، وغثياناً، وتيبّساً في الرقبة، ومع تطوّر المرض قد تظهر اضطرابات في الوعي أو نوبات تشنج أو أعراض عصبية بؤرية مثل شلل الأعصاب القحفية، وقد يرافقه أحياناً استسقاء دماغي نتيجة انسداد مسارات السائل الدماغي الشوكي.
يُعتبر السل السحائي حالة طبية طارئة تتطلب تشخيصاً وعلاجاً سريعين لتجنّب أذيّة الدماغ الدائمة.
5. السل الدخني
يحدث السلّ الدخني عندما تنتشر جراثيم السل عبر مجرى الدم لتصل إلى عدة أعضاء في الوقت نفسه، مثل الرئتين والكبد والطحال ونقي العظم. يظهر هذا الشكل عادة عند الأطفال أو المصابين بضعف المناعة، ويُعتبر من أخطر أشكال المرض بسبب انتشاره الواسع في الجسم.
تتصف الأعراض بطابعها العام وغير النوعي، وتشمل الحمى المستمرة، والتعرّق الليلي، ونقص الوزن، والضعف العام، وضيق التنفس، وقد يُلاحظ تضخّم في الكبد أو الطحال أو فقر دم نتيجة إصابة نقي العظم. تظهر صورة الأشعة للرئتين عادة بوجود عُقيدات دقيقة منتشرة تشبه حبّات الدخن، وهو ما يُعطي المرض اسمه.
يُعدّ التشخيص المبكر في هذا النوع بالغ الأهمية لأن التأخر في اكتشافه قد يؤدي إلى فشل متعدد في الأعضاء أو الوفاة.
6. الأنواع الأقل شيوعاً من السل خارج الرئة
إلى جانب الأشكال الرئيسة للسل، قد تُصاب بعض الأعضاء الأخرى في الجسم بدرجات أقل شيوعاً. منها السل الجلدي الذي يظهر على شكل تقرّحات مزمنة أو خراجات تحت الجلد، غالباً نتيجة امتداد العدوى من عقد أو عظام مصابة مجاورة، أما السل المعوي فيُصيب الأمعاء الدقيقة أو القولون مسبباً ألماً بطنيّاً مزمناً، وانتفاخاً أو إسهالاً متكرّراً، وقد يشبه في أعراضه أمراض الأمعاء الالتهابية.
يمكن أن يُصيب السل الكبدي الكبد وحده أو كجزء من السل المنتشر، وتظهر فيه علامات عامة مثل التعب وفقدان الشهية وارتفاع إنزيمات الكبد، كما قد يمتد الالتهاب إلى غشاء الجنب فيحدث السل الجنبي، الذي يسبب ألماً صدرياً وضيقاً في التنفس نتيجة تجمع السوائل حول الرئة، وفي بعض الحالات النادرة تمتد العدوى إلى غشاء القلب مسببة السل التاموري الذي قد يؤدي إلى تورّم في الساقين أو ضيق النفس بسبب انصباب التامور.
رغم ندرتها، فإن هذه الأشكال من السل تتطلب تشخيصاً دقيقاً ومتابعة طبية حذرة لتجنّب حدوث المضاعفات أو الانتشار إلى أعضاء أخرى.
تشخيص السل خارج الرئة
يعتمد تشخيص السل خارج الرئة على الجمع بين الفحص السريري والاختبارات المخبرية والشعاعية، لأن المرض قد يظهر بأعراض غامضة تختلف باختلاف العضو المصاب.
يبدأ التقييم عادةً بإجراء اختبار الجلد أو اختبار الدم (IGRA) للكشف عن وجود استجابة مناعية سابقة للجرثومة، مع صورة صدر شعاعية لتقصّي إصابة رئوية مرافقة أو نمط دخني منتشر. تُؤخذ بعد ذلك عينات من السوائل أو النسج المصابة مثل السائل الدماغي الشوكي، أو البول، أو السائل الجنبي أو التاموري، أو الخزعات اللمفاوية، لفحصها مجهرياً بعد صبغها واستخدام الزرع المخبري لجرثومة المتفطرة السلية، وهو المعيار المرجعي للتشخيص رغم أن نتائجه قد تحتاج أسابيع للظهور.
في الحالات التي تحتوي على عدد قليل من الجراثيم، تُستخدم التقنيات الجزيئية الحديثة مثل اختبار GeneXpert MTB/RIF، وهو فحص سريع يكتشف المادة الوراثية لجرثومة السل (MTB) ويُحدّد في الوقت نفسه ما إذا كانت مقاومة لدواء الريفامبيسين (RIF). يُظهر هذا الاختبار النتيجة عادة خلال ساعتين، ويُعدّ من أكثر الوسائل دقّة وسرعة لتشخيص المرض مبكراً.
تُسهم وسائل التصوير الحديثة مثل الأشعة المقطعية والتصوير بالرنين المغناطيسي في تحديد موضع الإصابة بدقة، وتُظهر المظاهر النموذجية لكل عضو؛ كالعقيدات الدقيقة في الرئتين بالسل الدخني أو الخراجات الباردة في العمود الفقري بمرض بوت، وفي حال الاشتباه بالسل المنتشر رغم سلبية الفحوص، قد تُجرى خزعة من الكبد أو نقي العظم لتأكيد التشخيص.
تؤكّد نتيجة إيجابية لأي من هذه الفحوص إلى جانب الصورة السريرية الداعمة، وجود إصابة خارج الرئة وتسمح ببدء العلاج دون تأخير.

علاج السل خارج الرئة
يهدف علاج السل خارج الرئة إلى القضاء الكامل على الجرثومة ومنع انتشارها أو عودتها مجدداً، ويعتمد على مزيج من العلاج الدوائي الأساسي مع بعض الإجراءات المساندة عند الحاجة، مثل استخدام الكورتيزون أو التدخل الجراحي في حالات محددة.
العلاج الدوائي
يشكّل العلاج الدوائي الأساس في معالجة جميع حالات السل خارج الرئة، ويُستخدم فيه نفس نظام الأدوية المعتمد لعلاج السل الرئوي. تمتدّ فترة العلاج عادة من 6 إلى 9 أشهر، بينما قد تتطلّب بعض الأنواع مثل السل السحائي أو العظمي علاجاً أطول يصل إلى 12 شهراً لضمان الشفاء الكامل ومنع الانتكاس. يُعدّ ضعف الالتزام بالعلاج أو استخدام عدد غير كافٍ من الأدوية من أهم أسباب ظهور السل المقاوم للأدوية، لذلك يُنصح بمتابعة العلاج تحت إشراف طبي متخصّص مع مراقبة دقيقة للالتزام والآثار الجانبية.
العلاج المساند بالكورتيزون
تُستخدم الستيرويدات القشرية (الكورتيزون) كعلاج مساعد في بعض حالات السل لتخفيف الالتهاب وحماية الأعضاء الحيوية من المضاعفات، أثبتت الدراسات فعاليتها بشكل خاص في السل السحائي حيث تقلّل خطر الوفاة والعجز العصبي الدائم، كما يمكن أن تفيد في السل التاموري من خلال تقليل الانصباب حول القلب ومنع حدوث التضيّق. مع ذلك، لا يُنصح باستعمالها بشكل روتيني في الأنواع الأخرى من السل، ويُقرّر الطبيب استخدامها من عدمه حسب موضع الإصابة والحالة المناعية للمريض، خاصة لدى المصابين بفيروس HIV.
العلاج الجراحي للسل
تُجرى الجراحة في حالات محددة فقط عندما يفشل العلاج الدوائي أو تظهر مضاعفات تستدعي تدخلاً فورياً، ومن أبرز هذه الحالات:
- تصريف الخراجات أو الانصبابات الكبيرة مثل الانصباب التاموري أو الجنبي
- استئصال الأنسجة المتليّفة أو المتضرّرة بشدّة في الكلية أو الأمعاء عند تراجع وظيفتها
- تخفيف الضغط على النخاع الشوكي في مرض بوت المتقدّم أو تثبيت الفقرات عند حدوث تشوّه شديد
عادةً لا تحتاج حالات سل العقد اللمفاوية إلى جراحة علاجية، بل تُجرى فقط لأغراض التشخيص أو في حال تشكّل خراج كبير يحتاج إلى تصريف.
الوقاية من السل خارج الرئة
تُعدّ متابعة العلاج حتى نهايته والالتزام التام بالخطة الدوائية من أهم الخطوات في الوقاية من عودة العدوى أو تطوّر الجرثومة إلى شكل مقاوم للأدوية، فإيقاف العلاج باكراً أو إهمال الجرعات يسهّل انتكاس المرض وانتشاره إلى أعضاء أخرى من الجسم. لذلك تُوصى المتابعة المنتظمة مع الطبيب وإجراء الفحوص الدورية للتأكد من الاستجابة الكاملة للعلاج.
تبدأ الوقاية من السل خارج الرئة بمعالجة حالات السل الرئوي باكراً، إذ إن السيطرة على مصدر العدوى في الرئتين تمنع انتقال الجراثيم إلى الدم أو الأنسجة الأخرى، كما يُنصح بتطعيم الأطفال بلقاح BCG الذي يوفّر حماية جزئية من الأشكال الخطيرة مثل السل السحائي والدخني.
تلعب المناعة العامة دوراً محورياً في الوقاية، لذلك يُستحسن اتباع نمط حياة صحي يشمل التغذية المتوازنة، والنوم الكافي، والابتعاد عن التدخين والإجهاد المستمر، مع علاج الأمراض المزمنة كداء السكري أو ضعف المناعة التي تزيد من احتمالية الإصابة. أخيراً، فإن الالتزام بإجراءات مكافحة العدوى داخل المستشفيات، كالعزل المؤقت للمرضى المصابين بالسل النشط وتهوية الغرف جيداً، يحدّ من انتقال الجراثيم إلى الآخرين ويحمي الفئات المعرضة للخطر.
في الختام، يُعدّ السل خارج الرئة من الأمراض التي يمكن علاجها تماماً عند اكتشافها مبكراً والالتزام بالعلاج الموصى به، ويُسهم التشخيص الدقيق والمتابعة المستمرة في منع المضاعفات وتحقيق الشفاء الكامل. توفّر المراكز الطبية في تركيا بإشراف كوادر متخصّصة وتقنيات متقدمة فرص علاج متميزة، ويعمل مركز بيمارستان الطبي على تسهيل وصول المرضى إليها ومرافقتهم خلال رحلة العلاج لضمان أفضل النتائج.
المصادر:
- Lee J. Y. (2015). Diagnosis and treatment of extrapulmonary tuberculosis. Tuberculosis and respiratory diseases, 78(2), 47–55. https://doi.org/10.4046/trd.2015.78.2.47
- Gopalaswamy, R., Dusthackeer, V. N. A., Kannayan, S., & Subbian, S. (2021). Extrapulmonary Tuberculosis—An Update on the Diagnosis, Treatment and Drug Resistance. Journal of Respiration, 1(2), 141-164. https://doi.org/10.3390/jor1020015
