في عصر تحوّل فيه العالم إلى شاشة صغيرة بين أيدينا، لم يعد استخدام الإنترنت رفاهية بل ضرورة يومية، لكن ما الخط الفاصل بين الاستخدام الطبيعي وإدمان الإنترنت؟
مع تزايد الاعتماد على منصات التواصل الاجتماعي وألعاب الإنترنت وتطبيقات الترفيه، يجد الكثيرون أنفسهم عالقين في دوامة رقمية تؤثر على صحتهم النفسية، علاقاتهم الاجتماعية، وحتى أدائهم الدراسي أو المهني. في هذه المقالة، نستعرض علامات ادمان الإنترنت وآثاره النفسية الخطيرة وكيف يمكن التعامل معه بطرق علاجية فعّالة، مستخدمة في مراكز العلاج السلوكي المتخصصة.
ما المقصود بإدمان الإنترنت؟
يُعد إدمان الإنترنت أحد أنواع الإدمان السلوكي، ويتميز بالاستخدام المفرط والقهري للإنترنت على حساب جوانب أساسية من الحياة اليومية مثل العلاقات الاجتماعية والعمل والدراسة. ينطوي هذا الاضطراب على انشغال دائم بالأنشطة الرقمية، مما يؤدي إلى سلوكيات قهرية وأعراض انسحاب واضحة عند تقليل أو فقدان إمكانية الوصول إلى الإنترنت.
مع مرور الوقت، يشعر الشخص بحاجة متزايدة لقضاء فترات أطول على الإنترنت لتحقيق نفس الشعور بالرضا أو الهروب من الضغوط، مما يرسخ اعتماده النفسي والسلوكي عليه. تُظهر الدراسات أن الشباب هم الفئة الأكثر عرضة لإدمان الإنترنت، حيث تبيّن أن الاستخدام المفرط لدى الطلاب يرتبط بتراجع ملحوظ في الأداء الأكاديمي، ولا يقتصر الأمر على التأثيرات الذهنية فقط، بل تمتد العواقب لتشمل الجانب الجسدي، حيث يعاني كثيرون من قلة النوم والإجهاد بسبب السهر المتواصل لتصفح الإنترنت أو ممارسة الألعاب أو استخدام تطبيقات التواصل الاجتماعي.
العلامات التحذيرية لإدمان الإنترنت
لا يقتصر إدمان الإنترنت على مجرد قضاء وقت طويل على الشبكة، بل يتمثل في مجموعة من السلوكيات والمشاعر التي تُشير إلى فقدان السيطرة وتأثير الاستخدام المفرط على مجالات الحياة المختلفة. وفيما يلي أبرز العلامات التحذيرية:
- الحاجة المتزايدة للوقت على الإنترنت: يشعر المستخدم بحاجة متزايدة لقضاء وقت أطول على الإنترنت للحصول على الإحساس بالرضا أو الراحة، مما يُشير إلى تطور في مستوى الادمان.
- هدر المال: قد ينفق المستخدم مبالغ كبيرة على أنشطة الإنترنت (مثل الألعاب أو الاشتراكات) على حساب ضروريات الحياة كالفواتير أو الطعام، مما يُعد مؤشر خطير على الإدمان.
- فقدان السيطرة على الوقت: إذا لاحظ الشخص أنه يقضي ساعات على الإنترنت دون أن يدرك، فهذه علامة واضحة على اختلال التوازن وعدم السيطرة على سلوك الاستخدام.
- تدهور الأداء الدراسي أو المهني: يُهمل المدمن مسؤولياته التعليمية أو المهنية، ويُفضل قضاء الوقت على الإنترنت، ما يؤدي إلى تدني الأداء وتزايد المشاكل في هذه المجالات.
- التركيز المفرط على الإنترنت: يفكر الشخص في الإنترنت باستمرار حتى خارج أوقات الاستخدام، مما يؤثر على تركيزه في العمل أو الدراسة أو التفاعل مع الآخرين.
- أعراض الانسحاب: عند غياب الاتصال بالإنترنت، تظهر أعراض مزعجة مثل القلق وتقلب المزاج والتوتر. يعود المستخدم للإنترنت غالباً لتخفيف هذه الأعراض.
- ظهور مشكلات صحية: قد تظهر أعراض جسدية مثل آلام الظهر وإجهاد العين أو متلازمة النفق الرسغي نتيجة الجلوس الطويل واستخدام الكمبيوتر بشكل مفرط.
- الهروب من المشاعر السلبية: يستخدم البعض الإنترنت كوسيلة للهروب من مشاعر الذنب أو القلق أو الاكتئاب، مما يُحول الإنترنت إلى أداة للتجنب النفسي.
- مشاكل في العلاقات الشخصية: يعاني المدمنون من مشاكل مستمرة في علاقاتهم الزوجية أو العائلية أو حتى الصداقات، نتيجة الانشغال المفرط بالإنترنت.
- الفشل في تقليل الاستخدام: رغم المحاولات المتكررة، يفشل الشخص في تقليل الوقت الذي يقضيه على الإنترنت، ما يُشير إلى فقدان السيطرة.
- قلة النوم واضطرابات المزاج: يسهر المدمن لساعات طويلة أمام الشاشات، مما يؤدي إلى اضطراب في النوم وإجهاد دائم ومزاج متقلب.
- إهمال الواجبات والعلاقات: يتجاهل المدمن جوانب حياتية مهمة مثل العلاقات العائلية والعمل والدراسة مفضلاً البقاء على الإنترنت.
- العزلة الاجتماعية: يميل الشخص إلى الانعزال والابتعاد عن الواقع الاجتماعي تدريجياً، ما يزيد من مشاعر الوحدة والانفصال.
تأثير إدمان الإنترنت على الصحة النفسية والعلاقات
لا يقتصر إدمان الإنترنت على مجرد سلوك قهري، بل يمتد تأثيره ليُحدث اضطرابات نفسية وعاطفية قد تؤثر في جودة الحياة بشكل عام، من أبرز هذه التأثيرات:
- اضطرابات النوم ونمط الحياة غير النشط: يؤدي السهر الطويل أمام الشاشات إلى اختلال إيقاع النوم الطبيعي، مما يُضعف الصحة النفسية ويُشجع على الكسل والخمول الجسدي.
- القلق والاكتئاب: يرتبط الاستخدام القهري للإنترنت بزيادة مستويات القلق والاكتئاب، حيث يلجأ المدمن إلى الشبكة للهروب من مشاعره السلبية، مما يُعمق المشكلة بدلاً من حلّها.
- انخفاض تقدير الذات وصورة الذات السلبية: يعاني الكثير من مدمني الإنترنت من تدني احترام الذات بسبب المقارنة المستمرة مع الآخرين على منصات التواصل أو نتيجة الشعور بالذنب من إهمال المسؤوليات.
- العزلة الاجتماعية وضعف العلاقات: يساهم الإفراط في استخدام الإنترنت في الانسحاب من العلاقات الواقعية، مما يؤدي إلى تراجع الروابط الاجتماعية، وفقدان الدعم العاطفي الحقيقي.
- الضغط النفسي والتوتر المستمر: ينتج عن الاستخدام المفرط توتر نفسي دائم، خاصة عند الانفصال عن الإنترنت أو مواجهة تحديات الحياة الواقعية التي تم تجاهلها.
- اضطرابات الأكل وتشوهات صورة الجسد: تُؤثر بعض المحتويات على تصور الأفراد لأجسامهم، ما قد يقودهم إلى اضطرابات مثل فقدان الشهية أو الشره المرضي.
- التنمر والتحرش الإلكتروني: تُعرض بعض المنصات المستخدمين للتنمر أو التحرش، ما يُفاقم من الضغوط النفسية، خصوصاً لدى المراهقين واليافعين.
- العواقب المالية والمهنية: قد يؤدي الانشغال المفرط بالإنترنت إلى إهمال العمل أو الإنفاق المفرط على الألعاب، مما يُسبب خسائر مهنية أو مالية.
- مشاكل في التركيز والانتباه: تُسبب كثرة التحفيز الرقمي تراجعاً في القدرة على التركيز والانتباه، ما ينعكس سلباً على الأداء الدراسي أو المهني.
- الهروب من الواقع والتجنب: يلجأ البعض إلى العالم الرقمي كوسيلة للهروب من مشاكلهم، مما يُعيق التعامل مع الواقع بطريقة صحية.

كيف يتم علاج إدمان الإنترنت؟
لا يتطلب علاج إدمان الإنترنت التوقف التام عن استخدامه، بل يهدف إلى تمكين الفرد من استخدام الإنترنت بطريقة صحية وغير قهرية. وتُركز معظم البرامج العلاجية على استعادة التوازن النفسي والسلوكي، من خلال الجمع بين العلاج النفسي والدعم الاجتماعي وأحياناً التدخلات الدوائية.
العلاج السلوكي المعرفي (CBT)
يُعتبر العلاج السلوكي المعرفي حجر الأساس في علاج إدمان الإنترنت، يعتمد هذا النهج على مبدأ أن الأفكار والمشاعر والسلوكيات مترابطة، ويُساعد الأفراد على:
- تعلم كيفية اتخاذ قرارات واعية بشأن استخدام الإنترنت
- التعرف على أنماط التفكير السلبي والسلوكيات الإدمانية
- اكتساب مهارات التنظيم الذاتي والتكيف الإيجابي مع الضغوط
- تحدي الأفكار غير المنطقية المرتبطة بالقلق أو الشعور بالذنب تجاه استخدام الإنترنت
- لقد أثبتت الدراسات أيضاً فعاليته في تقليل السلوك القهري، وتعزيز القدرة على ضبط النفس

العلاج الأسري والجماعي
نظراً لأن إدمان الإنترنت يؤثر غالباً على العلاقات الأسرية والاجتماعية، فإن إدماج الأسرة والمجتمع في العلاج يعد خطوة محورية، يوفر العلاج الأسري والجماعي:
- يساعد إشراك الأحباء في بناء بيئة منزلية أكثر توازناً واستقراراً، تُعزز رحلة الشفاء وتُقلل من فرص الانتكاس
- شبكة دعم نفسي تُسهم في الاستمرارية والتحفيز على التعافي
- بيئة داعمة لمناقشة الصعوبات وتحسين مهارات التواصل
- فرصة لوضع حدود صحية وتعزيز التفاهم المتبادل
التداخلات الدوائية
في بعض الحالات، يُعاني الأفراد من اضطرابات نفسية مرافقة مثل الاكتئاب أو القلق أو اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط (ADHD)، مما يزيد من تعقيد الإدمان، هنا يأتي دور التدخل الدوائي، الذي يشمل:
- مضادات الاكتئاب: لمعالجة حالات الاكتئاب المرتبطة بالإدمان.
- مزيلات القلق: للتخفيف من التوتر والانفعالات الناتجة عن الانسحاب من الإنترنت.
- أدوية ADHD: لتحسين التركيز وضبط السلوك عند وجود هذا الاضطراب.
تُساهم هذه الأدوية في تحسين الحالة النفسية العامة، وتُعد مكملة للعلاج النفسي، لا بديلاً عنه.

في الختام، نجد أن إدمان الإنترنت يمثل تحدي نفسي وسلوكي معاصر، يتجاوز كونه مجرد استخدام مفرط ليصبح اضطراباً يؤثر على جودة الحياة. تتطلب مواجهته فهماً عميقاً لأبعاده النفسية والاجتماعية، وتدخلاً علاجياً متخصصاً يوازن بين الاستخدام الصحي للتقنية والحفاظ على التوازن الذاتي والعلاقات الواقعية.
المصادر:
- American Psychological Association. (n.d.). Internet addiction. In APA Dictionary of Psychology.
- World Health Organization. (2018, September 13). Public health implications of excessive use of the Internet and other communication and gaming platforms.