إن اضطراب طيف التوحد هو من الاضطرابات المعقدة التي تواجه الطفل، وتثير قلق الأهل حول صحة ومستقبل ولدهم، ويظهر في جميع الفئات العرقية والاجتماعية وتشير الإحصائيات إلى ارتفاع معدلات تشخيص اضطراب طيف التوحد بنسبة 10-15% سنوياً حول العالم.
تُشير الإحصائيات إلى أن اضطراب طيف التوحد يُصيب الذكور أكثر من الإناث بنسبة 4:1، ويُعد من أكثر الاضطرابات تنوعاً حيث يُظهر حوالي نصف المصابين مستويات مرتفعة من الذكاء مع انخفاض القدرة على التواصل الاجتماعي، بينما يحتاج النصف الآخر إلى دعم مدى الحياة إذا لم يتم تشخيص وعلاج اضطراب طيف التوحد في مرحلة مبكرة.
ما هو اضطراب طيف التوحد؟
إن اضطراب طيف التوحد هو حالة عصبية تؤثر في تطور الدماغ، مما يؤدي إلى صعوبات في التواصل الاجتماعي وفهم الحياة الاجتماعية، ويتميز هذا الاضطراب بأنماط سلوكية محدودة ومتكررة، حيث يشمل مجموعة كبيرة وواسعة من الأعراض متفاوتة الشدة، وهو ما يُعبَّر عنه بمصطلح “الطيف”.
تظهر أعراض طيف التوحد منذ مرحلة الطفولة المبكرة، مما يجعل الطفل يواجه مشاكل في التواصل الاجتماعي في المدرسة، والذي قد يخفض أداءَه الأكاديمي. في الواقع، تكون مؤشرات النمو طبيعية خلال السنة الأولى من حياته، ولكن بعدها يبدأ بالمرور بمرحلة ارتداد بين الشهرين 18 و24، حيث تبدأ عندها الأعراض بالظهور.

اضطراب طيف التوحد: ما الذي يجعله مختلفاً؟
يتميز اضطراب طيف التوحد بتنوع الأعراض والشدة حيثُ إنه يشمل العديد من الاضطرابات تحت مسمى “طيف”، ويتميز كذلك بالتطور غير المتساوي للمهارات حيث قد يُظهر الفرد مهارات استثنائية في مجالات مثل الرياضيات أو الفنون أو الذاكرة، ولكنه يواجه صعوبة كبيرة في المهارات الاجتماعية أو الحركية.
تُصنف العديد من الاضطرابات تحت مسمى اضطراب طيف التوحد مثل متلازمة أسبارجر واضطراب التحطم الطفولي والتوحد والاضطراب النمائي الشامل غير المحدد، والتي كانت سابقاً تُصنف بشكل منفصل عن بعضها.
الأسباب المحتملة لاضطراب طيف التوحد
في الواقع، لا يوجد سبب واحد معروف للإصابة باضطراب طيف التوحد، بل هناك العديد من الأسباب المحتملة للإصابة بهذا الاضطراب حيث تلعب العوامل الجينية والبيئية أدواراً كبيرة للإصابة، ويُبدي دماغ الأشخاص المصابين بالتوحد اختلافات من ناحية كيفية اتصال الخلايا العصبية بعضها ببعض، وتُظهر بعض الدراسات نشاطًا غير طبيعي في مناطق الدماغ المرتبطة بالتواصل الاجتماعي والمعالجة الحسيّة.
الأسباب الوراثية والبيئية وراء اضطراب التوحد
إن الأسباب المحتملة الرئيسية للإصابة باضطراب طيف التوحد هي الأسباب الوراثية والبيئية، حيث على مستوى العوامل الجينية قد يرتبط هذا الاضطراب عند بعض الأطفال باضطرابات جينية أخرى مثل متلازمة ريت أو متلازمة الصبغي اكس الهش، وفي بعض الأطفال الآخرين قد تُعزز هذه التغيّرات خطر الإصابة باضطراب طيف التوحد.
من ناحية العوامل البيئية، فإن الباحثين يجرون تجارب حول ارتباط العدوى الفيروسية أو المواد الكيميائية أو تناول بعض الأدوية بالإصابة باضطراب طيف التوحد، وتُظهر دراسات أنه قد يُصاب الطفل بهذا الاضطراب في حالة الولادة المبكرة أو انخفاض وزن الطفل عند الولادة ولكن يبقى لتأثير العوامل الوراثية الدور المحتمل الأكبر في الإصابة.

أعراض طيف التوحد عند الأطفال والبالغين
تظهر بعض أعراض طيف التوحد في مرحلة مبكرة من حياة الطفل، مثل قلة الاتصال البصري مع الطفل، وقد يكون الطفل طبيعي في المراحل الأولى ولكنه يبدأ فجأة بالانطواء ويصبحون عدوانيين وقد يفقدون بعض المهارات اللغوية التي تعلموها من قبل. عادةً يكون لكل طفل مصاب باضطراب طيف التوحد نمط مميز من السلوك يختلف عن بقية أقرانه حيث يُظهر المصابين أنماط سلوك وتواصل اجتماعي مختلف.
علامات التوحد الاجتماعية والسلوكية
يقوم الطفل بحركات غريبة وعشوائية ومتكررة كالتأرجح أو الدوران أو رفرفة العينيين، ومن الممكن أن يقوم بأنشطة تسبب له الأذى مثل عض لسانه أو ضرب رأسه، وقد يكون له نمط مشي مميز كأن يمشي على أصابع قديمه وجسمه متصلب، وقد يُبدي حساسية شديدة تجاه الضوء والصوت، ولكنه لا يأبه بالمنبهات الألمية أو الحرارية.
ويُظهر الطفل علامات تدل على صعوبات في التواصل الاجتماعي والتفاعل مع الآخرين مثل عدم الاستجابة عند مناداته باسمه أو التصرف وكأنه لم يسمع. يحاول الطفل تجنب العناق وينزعج عندما يُمسك به أحد ويفضل اللعب بمفرده بعيدًا عن الآخرين، ويكون لديه ضعف في التواصل البصري، وصعوبة في بدء المحادثات، وعدم القدرة على فهم تعابير الوجه أو الأسئلة أو التعليمات البسيطة، وغالبًا يكون لديه تأخر في اكتساب اللغة أو فقدان القدرة على نطق الكلمات والجمل بعد أن قادرًا على ذلك.
يكون للطفل نمط تركيز وملاحظة مميزة على تفاصيل بعض الأشياء مثل أن ينبهر بالأنماط المنقوشة على الملابس أو مراوح السقف أو طريقة تحرك الشخصيات في الرسوم المتحركة والألعاب الالكترونية، كما يكون له تفضيل أصناف معينة من الطعام بناءً على حجمها أو لونها أو ملمسها، وقد يواجهون صعوبات في التعلم، ولكن رغم كل ذلك، فإن هؤلاء الأطفال لا يكون لديهم نقص في مستوى الذكاء بل وقد يكون لديهم مستوى ذكاء مرتفع مقارنة مع أقرانهم.

كيفية تشخيص اضطراب طيف التوحد
يمكن ملاحظة بعض أعراض طيف التوحد عند الأطفال الأصغر من 3 سنوات كضعف التواصل والتفاعل الاجتماعي كضعف التواصل البصري وعدم الاستجابة لاسمه، ووجود سلوكيات نمطية محددة يقوم بها الطفل كأن يتعلق الطفل بشدة بروتين محدد ويرفض تغييره، كما ويوجد عدد من طرق الفحص المبكر للطفل التي تستخدم في التشخيص مثل جدول المراقبة التشخيصية لمرض التوحد (ADOS-2)، وطريقة المقابلة التشخيصية للتوحد المُنقحة (ADI-R)، وطريقة قائمة المراجعة المعدلة للكشف عن التوحد لدى الأطفال الصغار (M-CHAT)، وقد يُلجأ إلى التحاليل الجينية للكشف عن بعض المتلازمات مثل متلازمة الصبغي X الهش في بعض الحالات.
الطرق المعتمدة لتشخيص طيف التوحد
توجد العديد من الأدوات التي تُستخدم لتشخيص الاصابة باضطراب طيف التوحد مثل (ADOS-2) و(ADI-R) و(M-CHAT)، ولكل منها ما يميّزها:
- جدول المراقبة التشخيصية لمرض التوحد (ADOS-2): أداة تشخيصية تفاعلية تُجري في جلسة مع الطفل البالغ من العمر سنة واحدة أو أكثر لمدة 30-60 يُلاحظ فيها الأخصائي سلوك الطفل أثناء اللعب والتفاعل الاجتماعي، وهو المعيار الذهبي المستخدم عالميًا.
- المقابلة التشخيصية للتوحد المُنقحة (ADI-R): تُجري مع الوالدين وتستغرق حوالي الساعتين إلى ثلاث ساعات مع الطفل الأكبر من السنة والنصف، وتدرس هذه الطريقة التطور المبكر (متى بدأ الطفل بالكلام والمشي) والمهارات الاجتماعية والسلوكيات المعقدة. هذه الطريقة فعالة في كشف الحالات غير الواضحة أو ذات الأعراض الخفيفة.
- قائمة الكشف عن التوحد المعدلة للأطفال الصغار (CHAT-M): وهي استبيان سريع مكون من 20 سؤال يُجيب عليه الوالدين لفحص الأطفال الصغار بعمر بين 16 و30 شهر، وتكون صيغة الجواب على السؤال بنعم أو لا، فإذا أجاب الأبوين على 3 أسئلة أساسية بالنفي، فعند ذلك تلك حالات خطر ،ويُحال الطفل إلى التقييم الشامل. هذه الطريقة سهلة التطبيق ومتاحة بشكل مجاني ومتوفرة بعدة لغات.
العلاج والتدخل المبكر لطيف التوحد
لحسن الحظ، فإن علاج اضطراب طيف التوحد عند الأطفال قبل سن 3 سنوات يُحسن الأعراض بنسبة كبيرة، كما ويطور المهارات الاجتماعية واللغوية للطفل لتصبح متقاربة بشدة من الشخص الطبيعي، ويكون العلاج باتباع أساليب علاجية سلوكية مثل أسلوب تحليل السلوك التطبيقي (ABA)، وأسلوب التدخل النمائي (DIR/Floortime)، وأسلوب علاج النطق واللغة (SLT).
يُمكن أن يكون للعلاج الدوائي دور كذلك في علاج اضطراب طيف التوحد، رغم عدم وجود دواء محدد لعلاج التوحد ولكن يوجد عدد من الأدوية التي تُساعد في تخفيف عدد من أعراض طيف التوحد المرافقة.
أهم أساليب العلاج السلوكي والدوائي
يكون لأساليب العلاج السلوكي الدور الأكبر، ولحسن الحظ توجد اليوم مجموعة من الأساليب العلاجية الفعالّة لعلاج التوحد والتي تُساعد في تحسين جودة حياة المصابين بهذا الاضطراب:
- أسلوب تحليل السلوك التطبيقي (ABA): هو أكثر الأساليب انتشارًا وفعالية في علاج التوحد، حيث يُركز على تعديل السلوك عبر تعزيز المهارات المرغوبة وتقليل السلوكيات الغير مرغوبة وغير المناسبة، يعمل عن طريق التعزيز الإيجابي كمكافأة الطفل عند تنفيذ سلوك جيد، وتقسيم المهارات حيث يتم تحويل المهارات المعقدة إلى خطوات بسيطة مثل تعليم الطفل غسل اليدين خطوة بخطوة، ويكون للتكرار والممارسة الدور الأكبر حيث يتم التدريب في جلسات مكثفة (20-40 ساعة أسبوعيًا).
- نموذج التطور والتفاعل الفردي (DIR/Floortime): وهو يركز على التطور العاطفي والاجتماعي عبر اللعب التفاعلي، ويعمل عن طريق الانخراط مع الطفل في أنشطة من اختياره مثل اللعب بالمكعبات، وبناء تحدي أمام الطفل عليه تنفيذه مثل بناء قصر بالمكعبات، مما يعزز التواصل العاطفي ويشجع الطفل على التعبير عن مشاعره خلال اللعب.
- علاج النطق واللغة (SLT): هدفه تحسين التواصل اللفظي وغير اللفظي، وذلك عن طريق تحفيز الكلام وتحسين الفهم كتعليم الطفل اتباع الأوامر البسيطة، ويتم استخدام أنظمة التواصل البديلة كاستخدام صور لطلب الأشياء، وتستخدم هذه الطريقة مع الأطفال غير الناطقين أو الذين يعانون من صعوبات في فهم اللغة.
أهمية علاج اضطراب طيف التوحد في مرحلة مبكرة وكيف يساعد في تحسين الأعراض
يُعتبر علاج اضطراب طيف التوحد في مرحلة مبكرة هو حجر الأساس في تحسين حياة المصابين بهذا الاضطراب، حيث في مرحلة الطفولة تكون الخلايا العصبية في الدماغ مرنة مما يجعله أكثر قابلية لإعادة تشكيل وصلات عصبية، ويركز علاج اضطراب طيف التوحد في سن مبكرة على تحسين التواصل والمهارات الاجتماعية والسلوكات التكيّفيّة كالأكل والنوم، وتُظهر الدراسات أن الأطفال الأصغر من 4 سنوات الذين تلقوا علاجاً مكثفاً أظهروا تحسناً بنسبة 30-50% في معدل الذكاء واللغة مقارنة بأولئك الذين بدأو في تلقي علاج التوحد لاحقاً.
دور الدعم الأسري في تحسين جودة الحياة للمصابين بطيف التوحد
يُعد الدعم الأسري للتوحد من الأمور المهمة التي يجب تقديمها لتحسين حياة المصابين باضطراب طيف التوحد، حيث يُوفر الأهل بيئة داعمة تعزز تطور الطفل ودمجه مع المجتمع، فالتشجيع المستمر للطفل والمشاركة في الأنشطة معه تُساعد على تنمية قدراته وتقوية ثقته بنفسه، كما ويلعب الأهل دوراً مهماً في متابعة البرامج العلاجية وتطبيقها في المنزل مما يُعزز فعاليتها ويُسرّع من تحقيق النتائج المرجوّة.
تقديم الأسرة الدعم العاطفي للطفل يُشعره بالأمان والاستقرار، مما يُساعده على التكيف مع التحديات اليومية، ويساعد الدعم الأسري للتوحد في تسهيل عملية دمج الطفل في المجتمع والمدرسة، حيث يُصبح الأهل جسراً يصل بين الطفل والعالم والخارجي
ختامًا، فإن علاج اضطراب طيف التوحد ليس مستحيلاً إذا تم تشخيصه وعلاجه في مراحل مبكرة، ويقدم أطباء مركز بيمارستان الطبي الرعاية الطبية للمصابين، ويعملون على تحسين جودة حياتهم بأحدث الطرق، ويوّفرون المتابعة الدورية للطفل، ويقدمون النصائح الطبيّة والنفسية التي من شأنها أن تُثقف الأهل حول طفلهم.
المصادر: