يعد مرض السل من أكثر الأمراض المعدية شيوعاً في العالم، وما يزال يشكّل تحدّياً صحياً رغم التقدّم الكبير في الطب الحديث. يتميّز بقدرته على البقاء في الجسم لفترة طويلة دون ظهور أعراض واضحة، مما يجعل الكشف المبكر والعلاج الفعّال أمراً ضرورياً للحد من انتشاره ومضاعفاته الخطيرة.
وفقاً لتقارير منظمة الصحة العالمية (WHO) يُصاب نحو 10 ملايين شخص سنوياً بالسل في مختلف أنحاء العالم، ويسبب أكثر من 1.5 مليون حالة وفاة كل عام مما يجعله من أكثر الأمراض المعدية خطورةً وتأثيراً على الصحة العامة، وقد حققت دول مثل تركيا تقدماً واضحاً في برامج مكافحة السل بفضل تطوير استراتيجيات الكشف والعلاج المجاني للمصابين.
ما هو مرض السل؟
يُعرَّف مرض السل بأنه عدوى بكتيرية مزمنة ناتجة عن جرثومة تُسمّى المتفطرة السلَية، تمتاز هذه البكتيريا بجدار خلوي سميك يجعلها مقاومة للعديد من العوامل البيئية والعلاجية، مما يسمح لها بالبقاء داخل الجسم لفترات طويلة دون أن يتمكّن الجهاز المناعي من القضاء عليها بالكامل.
يستقرّ المرض عادةً في الرئتين، حيث تبدأ البكتيريا بالتكاثر ببطء داخل أنسجتها مسبِّبة التهابات مزمنة قد تُلحق ضرراً تدريجياً بالنسيج الرئوي، وفي بعض الحالات يمكن أن تنتقل العدوى عبر الدم لتصيب أعضاء أخرى مثل الكليتين أو الدماغ أو العظام، يُعتبَر السل من الأمراض التي يمكن الوقاية منها وعلاجها عند اكتشافها مبكراً، إلا أن ظهور سلالات مقاومة للأدوية جعل السيطرة عليه أكثر تعقيداً في بعض مناطق العالم، ولفهم طبيعة هذا المرض بشكل أوضح لا بدّ من التعرّف على أنواعه وأشكاله المختلفة التي تحدّد شدة الأعراض ومدى انتقال العدوى.
أنواع مرض السل
يظهر مرض السل في أشكال مختلفة تبعاً لنشاط الجرثومة ومكان الإصابة في الجسم، ويمكن تقسيمه إلى ثلاثة أنواع رئيسية:
السل الكامن
في هذا الشكل تبقى الجرثومة المسببة للسل داخل الجسم خاملة وغير نشطة، فلا تسبب أي أعراض ولا تنتقل إلى الآخرين، ويتمكّن الجهاز المناعي من احتوائها ومنعها من التكاثر، لكنّها لا تُزال تماماً. يُقدَّر أن نحو ربع سكان العالم يحملون هذا الشكل الكامن من العدوى، ومعظمهم لا يُصابون بالمرض أبداً. مع ذلك، قد تتحول العدوى إلى سل نشط لاحقاً عند ضعف المناعة بسبب أمراض مثل السكري أو فيروس نقص المناعة البشرية (HIV) أو سوء التغذية.
السل النشط
يحدث هذا النوع عندما يعجز الجهاز المناعي عن السيطرة على البكتيريا فتنشط وتتكاثر داخل الجسم، حيث يظهر حينها المرض بأعراض واضحة مثل السعال المزمن والحمى والتعرق الليلي وفقدان الوزن، ويصبح المصاب قادراً على نقل العدوى إلى الآخرين عبر الهواء. من دون علاج مناسب، قد يؤدي السل النشط إلى تلف خطير في الرئتين أو حتى الوفاة.

السل خارج الرئة
في بعض الحالات، لا تقتصر العدوى على الرئتين بل تنتقل إلى أعضاء أخرى مثل العظام، والكليتين، والسحايا أو العقد اللمفاوية، يُعرف هذا الشكل باسم السل خارج الرئة، ويُعدّ أقل شيوعاً من السل الرئوي لكنه قد يكون أشدّ خطورة، خاصةً عند المصابين بنقص المناعة.
أعراض مرض السل
تختلف أعراض مرض السل بحسب مرحلة العدوى ومكان إصابة الجسم، وغالباً ما تبدأ الأعراض تدريجياً ثم تزداد شدتها مع مرور الوقت. في بعض الحالات، قد تمرّ العدوى دون أعراض لعدة أشهر، مما يجعل المريض ينقلها من غير أن يعلم بإصابته.
أعراض السل الرئوي
يُعدّ السل الرئوي الشكل الأكثر شيوعاً من المرض، وتظهر فيه العلامات التالية:
- سعال مستمر لأكثر من 3 أسابيع قد يترافق أحياناً مع خروج دم أو بلغم
- حمّى متكرّرة أو منخفضة الدرجة مع تعرّق ليلي
- قشعريرة شديدة تسبق ارتفاع درجة الحرارة
- ألم في الصدر يزداد مع التنفس أو السعال
- فقدان الشهية والوزن بشكل ملحوظ
- تعب وضعف عام في الجسم
أعراض السل خارج الرئة
عندما تنتقل العدوى إلى أعضاء أخرى، تُعرف الحالة باسم السل خارج الرئة، وتختلف الأعراض بحسب العضو المصاب، لكنها قد تشمل بشكل عام:
- حمّى وتعرّق ليلي مستمر
- فقدان الوزن والإرهاق العام
- صداع واضطرابات عصبية عند إصابة الدماغ أو السحايا
- ألم أو تورّم في المنطقة المصابة مثل العقد اللمفاوية، والعظام أو المفاصل
- آلام في البطن أو اضطرابات بولية إذا أُصيبت الكليتان أو الأعضاء التناسلية
أعراض السل عند الأطفال
قد تختلف الأعراض عند الأطفال باختلاف العمر:
- الرضّع: ضعف النمو، وفقدان الشهية وقيء متكرر، وخمول أو بكاء مستمر، وأحياناً انتفاخ اليافوخ (المنطقة الطرية في الرأس).
- الأطفال الأكبر سناً: حُمّى مزمنة لا تزول مع نقص في الوزن وسعال طويل الأمد.
- المراهقون: أعراض مشابهة لسل البالغين وتشمل السعال، والحُمّى، والتعب العام.
من المهم مراجعة الطبيب عند استمرار السعال أكثر من ثلاثة أسابيع أو في حال ظهور نفث دموي أو تعرّض مباشر لمصاب مؤكد، فالكشف المبكر والعلاج السريع يساهمان في الوقاية من المضاعفات الخطيرة وانتقال العدوى إلى الآخرين.
متى يجب مراجعة الطبيب؟
يُنصح بمراجعة الطبيب عند استمرار السعال لأكثر من ثلاثة أسابيع أو في حال ظهور بلغم دموي، أو فقدان وزن غير مبرر، أو حُمّى ليلية متكرّرة. كما يُستحسن إجراء الفحوصات الوقائية عند التعرّض المباشر لشخص مصاب بالسل النشط، حتى في حال عدم وجود أعراض واضحة، فالتشخيص المبكر لمرض السل والعلاج الفعّال في مراحله الأولى يساعدان على منع المضاعفات الخطيرة ويُسهِمان في وقف انتقال العدوى إلى الآخرين.
أسباب مرض السل
تتعدّد العوامل التي تؤدي إلى الإصابة بمرض السل، إذ يجتمع فيها وجود الجرثومة المسببة مع ظروف تساعد على انتقالها ونشاطها داخل الجسم. وفيما يلي توضيح لأهم أسباب المرض والعوامل التي تزيد خطر حدوثه:
أولاً: العامل المسبب لمرض السل
ينشأ مرض السل بسبب نوع محدد من البكتيريا يُعرف باسم المتفطرة السلَية. تُصنَّف هذه الجرثومة ضمن البكتيريا بطيئة النمو، ولها قدرة عالية على التكيّف داخل أنسجة الجسم والبقاء فيها لفترات طويلة من الزمن دون أن تُحدث أعراضاً واضحة. تُعتبر الرئتان البيئة الأكثر ملاءمة لتكاثرها، غير أنّها قد تنتقل عبر الدم لتصيب أعضاء أخرى في بعض الحالات.
ثانياً: طرق العدوى وانتقال مرض السل
ينتقل مرض السل من شخص إلى آخر عبر الهواء، عند إصابة الرئتين أو الحنجرة بالسل النشط، إذ يطلق المصاب أثناء السعال أو العطاس أو التحدث قطيرات دقيقة جداً تحتوي على البكتيريا، ويحدث انتقال العدوى عند استنشاق هذه القطيرات من قبل شخص آخر، لتدخل الجرثومة إلى الرئتين وتبدأ العدوى.
يزداد احتمال انتقال المرض في الأماكن المغلقة والمزدحمة أو عند التواجد لفترات طويلة مع شخص مصاب في منزل واحد أو مكان عمل مشترك، أما الأشخاص المصابون بالسل الكامن فلا ينقلون العدوى إلى غيرهم، كما أن المصاب بالسل النشط يتوقف عن نقل المرض بعد نحو 2 إلى 3 أسابيع من بدء العلاج الفعّال بالمضادات الحيوية.

ثالثاً: العوامل المساعدة على الإصابة بمرض السل
على الرغم من أن البكتيريا قد تدخل إلى جسم أي شخص، إلا أن بعض الفئات تكون أكثر عرضة للإصابة بالسل النشط بسبب ضعف المناعة أو ظروف المعيشة، ومن أبرز عوامل الخطورة:
- ضعف الجهاز المناعي كما في حالات فيروس نقص المناعة البشرية (HIV)، أو مرضى السرطان، أو من يخضعون للعلاج الكيميائي أو لتثبيط المناعة بعد زراعة الأعضاء
- الإقامة أو السفر المتكرر إلى مناطق ينتشر فيها السل مثل آسيا، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية
- العيش في أماكن مزدحمة أو ضعيفة التهوية مثل السجون، والملاجئ، ودور الرعاية
- التدخين وتعاطي الكحول أو المخدرات، حيث تُضعف هذه العادات مقاومة الجسم
- الأطفال دون سن الخامسة وكبار السن، بسبب ضعف مناعتهم الطبيعية
- الإصابة بأمراض مزمنة مثل السكري أو الفشل الكلوي أو سوء التغذية
آلية العدوى في الجسم
تبدأ الإصابة بمرض السل عندما تدخل بكتيريا المتفطرة السلَية إلى الجسم عبر الهواء المستنشق لتصل إلى الحويصلات الهوائية في الرئتين، هناك تتعرّف عليها خلايا مناعية تُسمّى البلعميات وتقوم بابتلاعها في محاولة لتدميرها، لكنَ هذه البكتيريا تمتلك قدرة خاصة على مقاومة الإنزيمات الدفاعية داخل الخلايا، فتستقر بداخلها وتبقى على قيد الحياة.
يُطلق الجهاز المناعي استجابة دفاعية أكبر، فيتجمّع عدد من الخلايا المناعية حول البكتيريا مكوّناً كتلاً صغيرة تُعرف بالدرنات، تهدف هذه البُنى إلى عزل الجرثومة ومنع انتشارها داخل الرئتين. في هذه المرحلة تبقى العدوى خامدة ولا تظهر على المريض أي أعراض، ويُعرف ذلك بالسل الكامن.
إذا ضعُف الجهاز المناعي لاحقاً، تفقد هذه الدرنات تماسكها وتتحرر البكتيريا منها، فتبدأ بالتكاثر السريع داخل أنسجة الرئة، ويؤدي ذلك إلى حدوث التهاب مزمن وتخريب تدريجي في الحويصلات الهوائية، وقد تمتد العدوى عبر الدم لتصيب أعضاء أخرى في الجسم. عند هذه النقطة تظهر الأعراض المعروفة مثل السعال المستمر والحمى وفقدان الوزن، وهي مرحلة السل النشط التي يمكن أن تنقل العدوى إلى الآخرين.
انتشار مرض السل حول العالم
رغم التقدّم الكبير في الطب وفعالية برامج الوقاية، ما يزال السل من أكثر الأمراض المعدية انتشاراً في العالم ويشكّل تحدياً صحياً على المستوى الدولي. تُظهر بيانات منظمة الصحة العالمية أن معظم الحالات تتركز في آسيا وإفريقيا، حيث تشير بيانات عام 2023 إلى أن نحو 45٪ من الحالات الجديدة تم توثيقها في منطقة جنوب شرق آسيا، و24٪ في إفريقيا.
تشهد الدول ذات الدخل المحدود أعلى معدلات الإصابة بسبب ضعف الخدمات الصحية وصعوبة الوصول إلى العلاج، بينما تشهد الدول المتقدمة انخفاضاً مستمراً في معدلات العدوى بفضل برامج الكشف والعلاج المبكر. على الصعيد العالمي، تعمل منظمة الصحة العالمية وشركاؤها على تنفيذ استراتيجية القضاء على السل عبر دعم برامج الفحص والعلاج وتطوير الأبحاث، كما تُعدّ تركيا من الدول التي أحرزت تقدماً ملموساً في مكافحة المرض من خلال برامج وطنية للكشف المبكر والعلاج المجاني بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية.
في الختام، يُعتبر مرض السل من أهم التحديات الصحية التي تواجه العالم حتى اليوم، ورغم خطورته إلا أن الكشف المبكر والالتزام بالعلاج يضمنان فرص شفاء مرتفعة ويمنعان انتقال العدوى إلى الآخرين. ساهمت الجهود الدولية في خفض معدلات الإصابة والوفيات بشكل ملحوظ خصوصاً في الدول التي تطبّق برامج فعّالة للفحص والعلاج، ومع استمرار التطور الطبي والتعاون العالمي، يقترب العالم تدريجياً من تحقيق هدف القضاء على السل وحماية الأجيال القادمة من أحد أقدم الأمراض المعدية في التاريخ.
المصادر:
- World Health Organization. (2024, March 21). Tuberculosis (TB).
- StatPearls. (2025). Tuberculosis. In StatPearls . National Center for Biotechnology Information (NCBI).
- Centers for Disease Control and Prevention. (2025, February 28). Tuberculosis (TB): About TB.
