يُعدّ السل عند الأطفال من أكثر أشكال العدوى البكتيرية خطورة، إذ يُقدّر أن نحو 12٪ من حالات السل عالميّاً تصيب الفئة العمرية دون الخامسة عشرة. رغم أن العدوى تنشأ من نفس الجرثومة المسببة للسل عند البالغين، إلا أنّ تطوّر المرض لدى الأطفال يكون أسرع وأكثر ميلاً للانتشار خارج الرئة.
يُشير ظهور حالات السل بين الأطفال إلى استمرار انتقال العدوى في المجتمع، ما يستدعي الانتباه المبكر والعلاج الفعّال، ومع التقدّم في وسائل التشخيص وتطبيق برامج الوقاية والتطعيم، أصبح الشفاء الكامل من السل في هذه الفئة ممكناً في معظم الحالات عند الالتزام بالخطة العلاجية الموصى بها.
ما هو السل عند الأطفال؟
يُعدّ السل عند الأطفال عدوى مزمنة ناتجة عن جرثومة تُسمّى المتفطرة السلَية، وهي نفس الجرثومة التي تُسبب المرض لدى البالغين. غالباً ما تُصيب الرئتين، إلا أنّها قد تمتد لتشمل أعضاء أخرى مثل الدماغ أو الكليتين أو العمود الفقري، وأحياناً تنتشر لتصيب عدة أجهزة في آنٍ واحد، كالرئتين والعُقَد اللمفاوية معاً.
تحدث العدوى عادةً بعد استنشاق رذاذ يحتوي على الجرثومة من شخص مصاب بالسل النشط، وغالباً ما يكون هذا الشخص أحد أفراد الأسرة، وبعد دخول الجرثومة إلى الجسم، قد تبقى خاملة دون أن تُحدث أعراضاً أو تصبح نشطة وتُسبب المرض. حيث يُقسَّم السل عند الأطفال إلى ثلاث مراحل رئيسية:
- مرحلة التعرّض للعدوى: عندما يختلط الطفل بشخص مصاب بالسل النشط، دون أن تظهر عليه أي أعراض أو علامات في الفحوص بعد.
- السل الكامن: في هذه المرحلة تكون الجرثومة موجودة داخل الجسم لكن الجهاز المناعي يُبقيها خاملة، فلا تظهر أعراض، ولا يمكن للطفل نقل العدوى إلى الآخرين.
- السل النشط: هي المرحلة التي تبدأ فيها الجراثيم بالتكاثر داخل الجسم مسببةً أعراضاً واضحة، وقد يصبح الطفل قادراً على نقل العدوى إذا كان المرض في الرئتين ولم يُعالج بعد.
أسباب إصابة الأطفال بمرض السل
يحدث السل عند الأطفال نتيجة العدوى بجرثومة المتفطرة السلَية، التي تنتقل عبر الهواء عندما يسعل أو يعطس شخص مصاب بالسل النشط. تنتشر الجراثيم في شكل رذاذ مجهري يمكن أن يستنشقه الطفل، وتزداد احتمالية العدوى عند التعرّض المتكرر أو المطوّل للمصابين في بيئات مغلقة سيئة التهوية. ولا تنتقل عدوى السل عبر الأدوات أو الملامسة، بل يقتصر انتقالها على الهواء فقط، مما يجعل التهوية الجيدة والإجراءات الوقائية عاملاً حاسماً في منع انتشارها.
عوامل خطر الإصابة بالسل عند الأطفال
يمكن أن يُصاب أي طفل بالسل بعد التعرّض للجرثومة، لكن بعض الفئات أكثر عرضة للإصابة أو لتطوّر المرض النشط، ومن أبرز عوامل خطر السل عند الأطفال:
- ضعف الجهاز المناعي نتيجة أمراض مثل فيروس نقص المناعة البشرية (HIV)، أو الداء السكري، أو أثناء العلاج بالكورتيزون أو العلاج الكيميائي
- العمر الصغير جداً، إذ يكون الرضّع والأطفال دون الخامسة أكثر عرضة لانتشار العدوى في الدم أو الدماغ مسببةً مضاعفات خطيرة مثل التهاب السحايا السلي
- العيش مع شخص مصاب بالسل النشط، خصوصاً في المنزل أو بيئات مزدحمة ضعيفة التهوية
- الإقامة أو القدوم من مناطق ينتشر فيها المرض، كأجزاء من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية
- الظروف المعيشية الصعبة مثل الفقر أو التشرد أو العيش في مساكن جماعية كالملاجئ أو مراكز الاحتجاز
كلّما تراكمت عوامل الخطر أو اجتمع أكثر من عاملٍ واحد، ازداد احتمال إصابة الطفل بالسل النشط بعد العدوى. وعندما يضعف الجهاز المناعي أمام الجرثومة، قد تتحوّل العدوى الكامنة إلى مرضٍ نشط، فتبدأ الأعراض بالظهور تدريجياً لتشمل الجهاز التنفسي وسائر أعضاء الجسم في بعض الحالات.
أعراض السل عند الأطفال
تختلف أعراض السل عند الأطفال باختلاف عمر الطفل ونوع الإصابة، وقد تظهر بشكل تدريجي يجعل اكتشاف المرض صعباً في مراحله الأولى. يميل الأطفال الصغار إلى إظهار أعراض عامة وغير محددة، بينما تظهر لدى المراهقين علامات تشبه تلك التي تصيب البالغين.
1. الأعراض العامة
في المراحل الأولى من المرض، قد تكون العلامات غير محددة وتشبه أعراض الالتهابات البسيطة، مما يجعل الأهل لا يلاحظونها في البداية. من أبرز هذه الأعراض:
- الحمّى المتكرّرة أو المستمرة دون سبب واضح
- نقص الوزن أو عدم زيادة الوزن مع مرور الوقت (فشل النمو)
- الخمول وضعف النشاط العام أو قلّة اللعب والحركة
- التعرّق الليلي والشعور بالقشعريرة
- فقدان الشهية والضعف العام
2. أعراض السل الرئوي
مع تطوّر العدوى ووصولها إلى الرئتين تبدأ الأعراض التنفسية بالظهور وتُصبح أكثر وضوحاً، وهي الشكل الأكثر شيوعاً للسل عند الأطفال، وتشمل:
- سعال مزمن يستمر أكثر من أسبوعين، وقد يرافقه بلغم أو دم في الحالات المتقدمة
- ألم أو انزعاج في الصدر مع صعوبة في التنفس أو صفير أثناء الزفير
- ضيق النفس وتسرّع التنفس عند الأطفال الصغار

3. أعراض السل خارج الرئة
في بعض الحالات، تنتشر الجرثومة خارج الجهاز التنفسي لتصيب أعضاء أخرى من الجسم وتختلف الأعراض عندها حسب العضو المصاب، وقد تشمل:
- السل السحائي (التهاب أغشية الدماغ) ويُسبّب صداعاً شديداً، وتهيّجاً عصبياً، ونوبات اختلاجية في الحالات الشديدة
- السل العظمي أو المفصلي ويظهر على شكل آلام مزمنة أو تيبّس في المفاصل
- تورّم العُقَد اللمفاوية خاصة في الرقبة، وقد تتقرّح وتُفرز سائلاً أحياناً
تتشابه هذه الأعراض مع أمراض أطفال أخرى، لذا يجب مراجعة الطبيب عند استمرار الحمى أو السعال أو فقدان الوزن، لتأكيد التشخيص بالفحوص المناسبة.
تشخيص السل عند الأطفال
يُعدّ تشخيص السل عند الأطفال خطوة دقيقة تتطلّب الجمع بين التاريخ المرضي والفحص السريري والفحوص المخبرية والشعاعية. يبدأ الطبيب عادةً بسؤال الأهل عن أعراض الطفل واحتمال مخالطته لمصاب بالسل، ثم يجري فحصاً جسدياً عاماً لتقييم حالته الصحية.
اختبار الجلد للتحري عن السل
يُعرف هذا الفحص أيضاً باسم اختبار السلّين أو اختبار مانتو، ويُستخدم للكشف عن وجود العدوى الكامنة، يتم حقن مقدار صغير من مادة الاختبار تحت الجلد في الساعد، وتُفحص النتيجة بعد 48–72 ساعة. يُعدّ الاختبار إيجابياً إذا ظهرت كتلة متورّمة بحجم معيّن، مما يشير إلى إصابة الطفل بعدوى السل. يُوصى بهذا الفحص للأطفال الذين يُحتمل تعرضهم للعدوى خلال السنوات الخمس الماضية أو القادمين من مناطق ينتشر فيها المرض.

اختبار الدم (IGRA)
يُعدّ اختبار IGRA (اختبار تحرّر إنترفيرون غاما) اختبار دم خاص يُستخدم للتحرّي عن عدوى السل، إذ يقيس استجابة خلايا المناعة لبروتينات جرثومة المتفطرة السلية داخل عيّنة دم صغيرة. يتميّز هذا الفحص بدقته العالية وعدم تأثره بلقاح BCG، مما يجعله خياراً مفضلاً للأطفال الذين تلقّوا اللقاح. يُوصى به غالباً للأطفال فوق عمر خمس سنوات أو عندما يصعب تفسير نتائج اختبار الجلد.
التصوير الشعاعي للصدر
يُعدّ تصوير الصدر بالأشعة السينية خطوة أساسية عند الاشتباه بالسل الرئوي، إذ يُظهر تغيرات مميزة مثل تليّف أو توسع العقد اللمفاوية في المنصف. يساعد هذا الفحص على التفريق بين العدوى الكامنة والمرض النشط.
الفحوص المخبرية المتقدمة
تُستخدم اختبارات البلغم لتأكيد وجود الجرثومة في الجهاز التنفسي، إلا أنّ الأطفال غالباً لا يستطيعون إخراج البلغم، لذلك يُستعان بإجراء يُسمّى شفط المعدة لجمع عيّنة تحتوي على الجراثيم المستنشقة أثناء النوم، ويمكن أيضاً تحليل عينات من البول أو الغدد اللمفاوية أو السائل الدماغي حسب موضع الإصابة. تُفحص العينات بتقنيات مثل الزرع الجرثومي أو اختبار PCR (GeneXpert Ultra) الذي يحدد وجود الجرثومة ونوع مقاومتها للأدوية.
تقييم نوع العدوى
إذا أظهرت الاختبارات أن الطفل يحمل الجرثومة دون علامات مرضية أو تغيرات شعاعية، يُشخّص بالـسل الكامن ويُعالج وقائياً لمنع تحوّله إلى الشكل النشط، أما وجود أعراض سريرية أو صور شعاعية غير طبيعية مع نتائج فحص إيجابية، فيشير إلى السل النشط الذي يحتاج علاجاً كاملاً وتقييماً دقيقاً للأدوية المناسبة.
يُعدّ التشخيص الدقيق والمبكر أمراً بالغ الأهمية لتجنّب المضاعفات، خصوصاً لدى الأطفال الصغار الذين قد تتطور لديهم العدوى بسرعة إلى أشكال خطيرة من المرض، إذ يتيح الاكتشاف المبكر اختيار العلاج الأنسب ومتابعته بفعالية حتى الشفاء الكامل.
علاج السل عند الأطفال
يهدف علاج السل عند الأطفال إلى القضاء على الجرثومة ومنع تطوّر المقاومة الدوائية وضمان الشفاء الكامل. تختلف خطة العلاج بحسب نوع العدوى، فلكل من السل الكامن والسل النشط بروتوكولات خاصة يحددها الطبيب بناءً على عمر الطفل وحالته الصحية.
1. علاج السل الكامن
يُنصح بعلاج الأطفال المصابين بعدوى السل الكامنة حتى لو لم تظهر لديهم أعراض، لأنهم معرضون لاحقاً لتطور المرض النشط. يعتمد العلاج عادة على تناول مضادات السل لفترة تتراوح بين 3 إلى 9 أشهر حسب النظام العلاجي الموصى به. أكثر الأنظمة شيوعاً هي تناول الإيزونيازيد يومياً لمدة 6 إلى 9 أشهر، أو نظام أقصر يجمع بين الإيزونيازيد والريفابنتين مرة أسبوعياً لمدة 12 أسبوعاً تحت إشراف طبي مباشر.
2. علاج السل النشط
يتطلب علاج السل النشط تناول مجموعة من أربعة أدوية رئيسية هي: الإيزونيازيد، والريفامبيسين، والبيرازيناميد، والإيثامبوتول، وذلك خلال أول شهرين من العلاج، يليها استمرار العلاج لمدة أربعة أشهر إضافية باستخدام الإيزونيازيد والريفامبيسين فقط. تُحسب الجرعات بدقة وفق وزن الطفل، وتُعد المراقبة الطبية المنتظمة ضرورية لمتابعة الاستجابة والتأكد من سلامة الكبد والسمع. في الحالات الشديدة مثل السل السحائي أو العظمي، قد تمتد فترة العلاج إلى 12 شهراً أو أكثر.
3. أهمية الالتزام بالعلاج (العلاج تحت الإشراف المباشر DOT)
يُعدّ الالتزام بتناول الأدوية المضادة للسل في المواعيد المحددة أمراً أساسياً لضمان الشفاء الكامل ومنع ظهور سلالات مقاومة للأدوية، فالتوقف المبكر عن العلاج أو تناول الجرعات بطريقة غير منتظمة قد يؤدي إلى عودة العدوى بشكل أشدّ خطورة ويجعلها أصعب علاجاً في المستقبل.
ولضمان الالتزام الكامل، تُطبّق في العديد من الدول برامج تُعرف باسم العلاج تحت الإشراف المباشر (Directly Observed Therapy – DOT)، حيث يتولى أحد العاملين الصحيين متابعة الطفل أثناء تناول الأدوية بشكل يومي أو عدة مرات أسبوعياً، سواء في العيادة أو من خلال زيارات منزلية أو حتى عبر المتابعة المرئية. يهدف هذا النظام إلى التأكد من التزام الطفل بالعلاج، ومراقبة أي آثار جانبية محتملة، وتعزيز التواصل بين الأسرة والفريق الطبي لتحقيق أفضل نتائج العلاج.
الآثار الجانبية المحتملة لعلاج السل عند الأطفال
تُعدّ الآثار الجانبية للأدوية المضادة للسل نادرة عند الأطفال، لكنها قد تشمل:
- الغثيان أو فقدان الشهية في بداية العلاج
- تأثيرات كبدية طفيفة نادرة الحدوث، لذا يُنصح بالمراقبة الطبية المنتظمة
- تغير لون البول والدموع إلى البرتقالي عند استخدام الريفامبيسين، وهو تأثير طبيعي وغير مقلق
- في حالات نادرة، قد يُسبب دواء الإيثامبوتول مشاكل في الرؤية، لذا يُنصح بإجراء فحوص دورية للعينين أثناء العلاج الطويل الأمد
يبدأ معظم الأطفال بالتحسن خلال أسابيع قليلة من بدء العلاج، ويصبحون عادة غير ناقلين للعدوى بعد أسبوعين تقريباً من الالتزام الدوائي المنتظم.
الوقاية من السل عند الأطفال
يُعدّ السل من الأمراض القابلة للوقاية عند الالتزام بالتطعيم والرعاية الصحية السليمة، يُعطى لقاح BCG للأطفال حديثي الولادة في الدول التي ينتشر فيها المرض ليحميهم من الأشكال الخطيرة مثل السل السحائي والسل الدخني، ويسهم في خفض معدلات الوفيات بين الصغار. كما تساعد التهوية الجيدة للمنازل والفصول الدراسية وتجنّب مخالطة المصابين بالسل النشط على الحد من انتقال العدوى، بينما يُوصى بفحص الأطفال المخالطين ومعالجة أي عدوى كامنة قبل أن تتحول إلى مرض نشط.
يُعدّ الاهتمام بالتغذية المتوازنة والنوم الكافي والكشف المبكر في المدارس والمراكز الصحية من العوامل الأساسية لتعزيز مناعة الطفل ومقاومته للمرض، فالممارسات الوقائية البسيطة إلى جانب التطعيم المنتظم، تشكّل حجر الأساس لحماية الأطفال من السل والحد من انتشاره في المجتمع.
في الختام، يُعدّ السل عند الأطفال من الأمراض التي يمكن الشفاء منها تماماً عند اكتشافها مبكراً والالتزام بالعلاج الموصى به، وتبقى الوقاية بالتطعيم والرعاية الصحية الجيدة السبيل الأهم لحماية الصغار من مضاعفات هذا المرض والحد من انتشاره في المجتمع.
المصادر:
- Thomas, T. A. (2017). Tuberculosis in children. Pediatric Clinics of North America, 64(4), 893–909. https://doi.org/10.1016/j.pcl.2017.03.010
- Centers for Disease Control and Prevention. (2025, April 17). Tuberculosis in children.
