يُعتبر إدمان القمار من المشكلات الصحية المتزايدة في العالم، خاصة مع الانتشار السريع للمقامرة الإلكترونية بين فئة الشباب، مما يشكل تهديداً خطيراً للصحة النفسية والاجتماعية، تشير الدراسات إلى تزايد عدد الأفراد المتأثرين بهذا الاضطراب، حيث أن حوالي 37 مليون تركي مدمنون على القمار الإلكتروني، مما يجعله ثاني أكثر أنواع الإدمان انتشاراً بعد المخدرات، هذا الانتشار السريع دفع الحكومة التركية إلى اتخاذ إجراءات صارمة لمكافحة هذه الظاهرة.
في مواجهة هذا الإدمان، اتخذت الحكومة التركية خطوات تشريعية وتنظيمية صارمة، حيث أن في عام 2007 حظرت تركيا جميع أشكال المقامرة عبر الإنترنت باستثناء المراهنات الرياضية المملوكة للدولة (IDDAA)، كما أطلقت الحكومة التركية حملات أمنية واسعة ضد المواقع والشبكات المشغّلة للمقامرة الإلكترونية، بالإضافة إلى تشديد الرقابة على منصات التواصل الاجتماعي التي تروّج لهذه الأنشطة، كما أُنشئ أول مركز لعلاج إدمان القمار في تركيا عام 2021 بهدف تقديم الدعم والعلاج للأفراد المتأثرين.
رغم هذه الجهود لا تزال التحديات كبيرة بسبب سهولة الوصول إلى منصات المقامرة عبر تقنيات التهرب مثل استخدام شبكات VPN، مما يستدعي تطوير استراتيجيات علاجية وتوعوية متكاملة تراعي الجوانب النفسية والاجتماعية لهذا الاضطراب، لذلك يُعتبر فهم السياق المحلي والاهتمام بالتدخلات المبكرة أمراً حاسماً للحد من انتشار إدمان القمار وتحسين جودة الحياة للأفراد المتأثرين.
ما هو إدمان القمار؟
إدمان القمار هو اضطراب سلوكي قهري مستمر يؤدي إلى اختلالات وظيفية في الجوانب الشخصية والاجتماعية والمهنية، يُسبب ضرراً كبيراً للفرد وأسرته ومحيطه بما في ذلك تبعات مالية شديدة قد تصل إلى تفكك الأسرة، بسبب تطور التكنولوجيا وانتشار المنصات الرقمية ارتفعت معدلات انتشار هذا الاضطراب، كما يُشار إلى أن إدمان القمار ليس ناتجاً عن ضعف أخلاقي أو إرادي، بل هو حالة تتطلب تدخلاً علاجياً متخصصاً.
تشير البيانات إلى أن نسبة الانتشار تبلغ نحو 3% بين عموم السكان ويظهر عبر مختلف الفئات الاقتصادية، كما يُعد أكثر شيوعاً بين الرجال في عمر 40–50 سنة مع تزايد ملحوظ في فئة الشباب في السنوات الأخيرة.
معايير التشخيص (DSM-5)
يُصنف اضطراب المقامرة ضمن الاضطرابات المرتبطة بسلوكيات الإدمان في الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس للاضطرابات النفسية (DSM-5)، يتميز هذا الاضطراب بنمط مستمر ومنتشر من سلوك المقامرة، يتسم بعدم القدرة على التحكم في الدافع واستمرار السلوك رغم العواقب السلبية البالغة على المستويات الشخصية والاجتماعية والمهنية.
التشخيص حسب DSM-5 يتطلب تحقق أربع (أو أكثر) من الأعراض التالية خلال 12 شهراً:
- الحاجة إلى زيادة المبالغ المُقامرة لتحقيق مستوى الإثارة المطلوب
- أعراض انسحابية مثل التهيج والقلق، أو الأرق عند محاولة التوقف أو تقليل المقامرة
- محاولات فاشلة ومتكررة للسيطرة أو تقليل السلوك
- الانشغال الدائم بأفكار المقامرة مثل التخطيط للجلسة القادمة أو التفكير بكيفية الحصول على المال للمقامرة
- المقامرة كوسيلة للهروب من المشكلات أو الشعور بالذنب والاكتئاب
- محاولة تعويض الخسائر بمزيد من المقامرة ما يُعرف بـ مطاردة الخسائر، أي يقوم المقامر بمتابعة المقامرة لاسترداد الأموال المفقودة مع اعتقاد خاطئ بأن الفرص القادمة ستعوّض الخسائر
- الكذب لإخفاء حجم الانخراط في المقامرة
- المخاطرة بعلاقات مهمة أو فرص عمل بسبب المقامرة
- الاعتماد على الآخرين لتوفير الدعم المالي لإنقاذه من أزمات مالية سببتها المقامرة
الفرق بين اللعب الترفيهي وسلوك المقامرة القهري
يكمن الفرق الجوهري بين اللعب الترفيهي وسلوك المقامرة القهري في الدوافع والسيطرة والتأثيرات المصاحبة لكل منهما، فبينما يُمارَس اللعب الترفيهي بهدف المتعة وقضاء وقت ممتع ضمن حدود معينة من الوقت والمال، يبقى اللاعب قادراً على التحكم في سلوكه واتخاذ قرار التوقف بسهولة، دون أن يؤثر ذلك على حياته اليومية أو علاقاته.
أما في حالة المقامرة القهرية فيتحول السلوك إلى دافع لا يمكن مقاومته، حيث يُمارس المقامر رغم العواقب السلبية الواضحة، كما يجد الشخص نفسه مدفوعاً للمقامرة كوسيلة للهروب من التوتر أو الحزن ويشعر بحاجة متزايدة للرهان بمبالغ أكبر للحصول على نفس الشعور السابق بالإثارة، بمرور الوقت تتدهور قدرته على التحكم وتبدأ الآثار السلبية بالظهور على جوانب حياته كافة من العلاقات الشخصية إلى الحالة المالية والنفسية، غالباً ما يرافق هذا السلوك شعور عميق بالذنب أو الندم لكنه لا يكون كافياً لكسر الحلقة.
أنواع إدمان القمار
في السابق كان إدمان القمار محصوراً في أماكن معينة، حيث يتطلب الوصول إليه جهداً مقصوداً وظروفاً خاصة، أما اليوم فقد تغيّر المشهد إذ أصبح هذا الإدمان أكثر قربا وسهولة، حيث يتسلل إلى حياتنا اليومية من خلال الأجهزة الرقمية متخفياً خلف واجهات ترفيهية جذابة، ما يزيد من احتمالية الانخراط فيه دون وعي أو إدراك للعواقب.
المقامرة التقليدية
كانت المقامرة التقليدية مقيدة بقيود الزمان والمكان، فالكازينو يغلق أبوابه في ساعة محددة والذهاب إليه يتطلب جهداً ووقتاً، حتى الشخص الذي يعاني من إدمان القمار كان مضطراً لأن يمر بمراحل قبل الوصول إلى مكان اللعب، مما أعطاه فرصة للتراجع أو إعادة التفكير.
لكن حتى مع هذه الحدود، كان إدمان القمار يدمر حياة الكثيرين، حيث أن الخسائر المالية والكذب على العائلة وتدهور الصحة النفسية، كانت جميعها نتائج معروفة لهذا النوع من الإدمان.
المقامرة الإلكترونية
اليوم لم يعد الشخص بحاجة للذهاب إلى أي مكان لممارسة القمار، فبضغطة زر يمكنه الدخول إلى عالم المراهنات الرياضية أو الكازينوهات الافتراضية أو حتى ألعاب الفيديو التي تحتوي على عناصر قمار مثل صناديق الحظ.
هذا ما يجعل من المقامرة الإلكترونية أخطر، حيث أصبحت متاحة طوال الوقت لا توجد أوقات إغلاق، فيمكن اللعب ليلاً أو نهاراً، كما أن لا أحد يراقب، مما يجعل الإدمان ينمو في الخفاء مع شعور زائف بالخصوصية والأمان، أيضاً سهولة الدفع الرقمي، حيث أن استخدام بطاقات الائتمان أو المحافظ الإلكترونية يجعل الخسارة أقل إيلاماً في البداية لكنها تتراكم بسرعة.
لا يقتصر تأثير إدمان القمار الإلكتروني على الخسائر المالية فقط، بل يمتد إلى انهيار العلاقات الأسرية والاجتماعية بسبب الكذب والعزلة ومشاكل نفسية مثل الاكتئاب والقلق، أيضاً قد تشمل مخاطر قانونية في بعض الدول، حيث تكون المقامرة غير قانونية.

علامات وأعراض إدمان القمار
تظهر علامات إدمان القمار من خلال مجموعة من السلوكيات والأفكار المتكررة التي تؤثر على حياة الفرد بشكل سلبي، من أبرز هذه العلامات:
- الانشغال المستمر بالقمار: التفكير المتكرر في تجارب المقامرة السابقة والتخطيط للمقامرات القادمة، أيضاً البحث الدائم عن طرق للمراهنة.
- السلوك المالي غير المنضبط: الاستدانة أو الكذب للحصول على المال اللازم للمقامرة، أحياناً دون القدرة على السداد أو الاعتراف بالمشكلة.
- محاولة تعويض الخسائر: العودة المتكررة للمقامرة بعد الخسارة بهدف تعويض الأموال المفقودة، مما يؤدي إلى تفاقم الوضع المالي والنفسي.
- الشعور بالذنب أو الندم: الإحساس بالذنب بعد جلسات المقامرة، دون القدرة على التوقف رغم المعرفة بالعواقب السلبية.
- تأثير سلبي على الحياة اليومية: تدهور العلاقات الاجتماعية، تراجع الأداء الدراسي أو الوظيفي، وانخفاض الاهتمام بالمسؤوليات الشخصية.
الأثر العصبية لإدمان القمار
يشكل إدمان القمار خطورة كبيرة على الجهاز العصبي، حيث يؤدي إلى مجموعة من الاضطرابات العصبية التي تؤثر على سلوك الفرد ووظائفه العقلية والانفعالية.
- اضطرابات القلق والتوتر: يعاني المدمن من مستويات مرتفعة من القلق، خاصة عند عدم القدرة على المقامرة أو عند مواجهة خسائر مالية.
- الاندفاعية وضعف التحكم بالنفس: يحدث خلل في مناطق الدماغ المسؤولة عن اتخاذ القرار وضبط السلوك، مما يؤدي إلى تصرفات اندفاعية دون تفكير في العواقب.
- اختلال نظام المكافأة في الدماغ: تحفّز المقامرة إفراز الدوبامين، مما يؤدي إلى شعور مؤقت بالمتعة، ثم انخفاض في الاستجابة الطبيعية للمكافآت الأخرى مثل العلاقات والإنجازات.
- الأرق واضطرابات النوم: يعاني المدمن من صعوبة في النوم أو نوم متقطع نتيجة القلق المستمر أو التفكير في القمار.
- زيادة خطر السلوك الانتحاري: في الحالات الشديدة قد يشعر الفرد بالعجز التام نتيجة الخسائر المتراكمة، ما يزيد من خطر التفكير أو المحاولة في الانتحار.
ما هي الآثار النفسية والاجتماعية لإدمان القمار؟
يُعد إدمان القمار من الاضطرابات السلوكية التي لا تقتصر آثارها على الجانب المالي فحسب، بل تمتد لتشمل أبعاداً نفسية واجتماعية عميقة، مع تفاقم هذا السلوك يعاني الفرد من اضطرابات داخلية تؤثر على صحته النفسية، كما تتأثر علاقاته الاجتماعية وحياته اليومية بشكل كبير، فيما يلي أبرز الآثار النفسية والاجتماعية لإدمان القمار:
- الاكتئاب: يشعر المدمن بالحزن المستمر وانخفاض في الدافعية، وفقدان الإحساس بالمتعة، خاصة بعد الخسائر أو الفشل في التوقف عن المقامرة.
- مشاعر الذنب وفقدان السيطرة: يعاني الفرد من شعور دائم بالذنب تجاه تصرفاته، ويشعر بالعجز عن التحكم في رغبته بالمقامرة.
- تفكك العلاقات الأسرية والزوجية: يؤثر السلوك القهري للمقامرة على الثقة والتواصل داخل الأسرة، وقد يؤدي إلى الطلاق أو القطيعة الأسرية.
- العزلة الاجتماعية: ينعزل المدمن عن الأصدقاء والمجتمع، نتيجة الشعور بالخجل أو تجنب المواجهة، مما يعمّق الوحدة والاضطراب النفسي.
- المشكلات المالية والإفلاس: تؤدي الخسائر المتكررة إلى تراكم الديون واستنزاف المدخرات وأحياناً فقدان العمل أو الأصول المالية.
- المشكلات القانونية: في بعض الحالات، قد يلجأ المدمن إلى سلوكيات غير قانونية كالاحتيال أو السرقة لتأمين المال، مما يعرضه للمساءلة القانونية أو السجن.

خطوات العلاج السلوكي لإدمان القمار
يشكل العلاج السلوكي خيار فعال للتعافي في مواجهة إدمان القمار، إذ يركز على تعديل السلوكيات والأفكار المرتبطة بالإدمان ويعتمد على خطوات منظمة تضمن تحقيق التعافي المستدام.
الاعتراف بالمشكلة وطلب المساعدة
تُعتبر مرحلة الاعتراف بوجود مشكلة إدمان القمار أولى خطوات العلاج الفعّالة، يتطلب هذا الإدراك قراراً بالواقع من الفرد بضرورة التوقف عن السلوك الإدماني والاعتراف بتأثيراته السلبية على على الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية والوضع المالي، كما يشكل طلب المساعدة من المختصين أو شبكات الدعم الاجتماعي نقطة انطلاق حاسمة نحو تلقي الدعم المناسب وبدء المسار العلاجي.

الجلسات السلوكية المعرفية (CBT)
يُعد العلاج السلوكي المعرفي من أبرز الأساليب العلاجية المستخدمة في معالجة إدمان القمار، حيث يهدف إلى تحديد وتعديل أنماط التفكير المشوّهة والسلوكيات المرتبطة بالمقامرة، يتعلم المدمن خلال هذه الجلسات استراتيجيات تُمكنه من تطوير آليات مواجهة صحية للتحكم في الدوافع الإدمانية، مما يساهم في تقليل السلوكيات الإدمانية وتعزيز القدرة على مواجهة المحفزات البيئية والنفسية.
كما يُساعد استبدال سلوك القمار بأنشطة إيجابية مثل الرياضة، الهوايات، أو التطوع في تعزيز الصحة النفسية وملء الوقت الفراغ الذي كان مخصصاً للمقامرة.
الانضمام إلى مجموعات الدعم النفسي
تلعب مجموعات الدعم دوراً مهماً في تعزيز عملية التعافي من إدمان القمار، حيث توفر بيئة تفاعلية وآمنة للمرضى لمشاركة تجاربهم وتلقي الدعم المعنوي وتعلّم استراتيجيات التعافي من الآخرين، يساعد هذا الانتماء على تقليل الشعور بالعزلة وتعزيز الالتزام بالعلاج، كما يتيح تبادل الخبرات والاستراتيجيات التي أثبتت فعاليتها في مواجهة الانتكاسات والتغلب على الإدمان.
في الختام، إدمان القمار يمثل مشكلة صحية واجتماعية معقدة تتطلب تدخلاً مبكرًا وشاملًا، يشمل العلاج النفسي والدعم الاجتماعي، إن الوعي بالعلامات والأعراض بالإضافة إلى تطبيق خطوات علاجية فعالة كالعلاج السلوكي المعرفي والمشاركة في مجموعات الدعم، تعد من أهم الأسس للتعافي في ظل تزايد انتشار هذه الظاهرة وبالأخص في بيئات مثل تركيا، يصبح من الضروري الاستفادة من المراكز الطبية المتخصصة، مثل بيمارستان، التي توفر خدمات متكاملة تشمل التقييم النفسي والعلاج المهني، لضمان دعم الفرد وتعزيز فرص الشفاء المستدام.
المصادر:
- NPİSTANBUL Brain Hospital. (n.d.). What is gambling addiction and how is it treated? NPİSTANBUL
- Smith, M., & Segal, J. (2023, October). Gambling addiction and problem gambling. HelpGuide